كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما ما زعمته النصارى من أن المارد به عيسى عليه السلام، فهو أيضًا باطل لوجوه:
1- أنه من بني إسرائيل، والمبشر به هنا من غيرهم.
2- أن موسى بَّشر بنبيّ مثله، وهم يدّعون أن عيسى إله، وينكرون كونه نبيًا مرسلًا، وإلا لزم اتحاد المرسِل والمرسَل، وهو غير معقول، على أن مشابهة موسى لنبينا عليهما الصلاة والسلام أقوى من مشابهته لعيسى، لاتحادهما في أمور:
1- كونهما ذَوى والدين وأزواج بخلاف عيسى عليه السلام.
2- كونهما مأمورين بالجهاد، بخلاف عيسى عليه السلام. وقد أشار في هذه البشارة بقوله:
.....................
19- ويكون أي: الْإِنْسَاْن الذي لا يسمع لكلامي، الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه.
إلى كون هذا النبي مأمورًا بجهاد من كفر بما جاء به من عند الله، والإنتقام منه بسيفه البتّار.
وزعمت النصارى أن الإنتقام هنا بمعنى العذاب الأخرويّ لمنكريه، وهو خطأ، لأن ذلك لا يختص بهذا النبي، بل كل من أنكر ما جاء به نبي من الأنبياء ينتقم منه في الآخرة، فلا معنى لتخصيص هذا النبي بالذكر حينئذ.
3- كون شريعتهما مشتملة على الحدود والقصاص والتعزير وإيجاب الغسل على الجنب والحائض والنفساء، وإيجاب الطهارة وقت العبادة، وهذا كلها ليست موجودة في شريعة عيسى عليه السلام- على ما تقول النصارى- ونظائر ذلك كثيرة.
وفي هذا البشارة إشارة إلى كون هذا النبي أميًا لا يقرأ، حيث قال: يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي.
وبذلك تعرف سر وصفه به في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الآية التي نحن في صددها.
ومنها: في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلا الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه، ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه، لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم.
وهذا بشارة من المسيح عليه السلام بأن الله تعالى سيبعث للناس من يقوم مقامه، وينوب في تبليغ رسالته، وسياسة خلقه، ومنابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدًا، وهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم. والأب هنا بمعنى الرب والإله، لأنه إصطلاح أهل الكتابين.
وقد أشار عيسى عليه السلام بكونه روح الحق إلى أن الحق قبل مبعثه، يكون كالميت لا حراك له، ولا إنتعاش، وأنه إذا بعث يكون كالروح له، فيرجع حينئذ قائمًا في الأرض.
ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام، هو الذي أحيى الله به الحق بعد عيسى عليه السلام بعد ما اندرس، ولم يبق فيه نفس. ثم قال: الفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شي، وهو يذكركم كل ما قلته لكم.
ولا شك بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الذي علم كل شيء من الحقائق، وأوضح ما خفي من الدقائق، وذكر أمة عيسى ما نسوه من أقواله المتضمنة أنه عبد من عَبَّاد الله تعالى، وقربه إليه بالرسالة واصطفاه، وأنه لم يدْعُ لسوى عبادة الله وتوحيده، وتنزيهه وتمجيده. وقوله: باسمي أي: بالنبوة.
ثم أَبَان لهم سبب إخبارهم به قبل أن يأتي فقال: والآن قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان، تؤمنون.
وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور: فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق، وهو يشهد لأجلي، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء.
وفي الباب السادس عشر منه: لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق، لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذ جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطيئة، وعلى بر، وعلى حكم، أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب، ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم، فإن رئيس هذا العالم قد دين، وإن لي كلامًا كثيرًا أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله، وإذا جاء روح الحق ذاك، فهو يعلمكم جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني، لأنه يأخذ مما هو لي، ويخبركم جميع ما هو للأب، فهو لي. من أجل هذا قلت: إن مما هو لي يأخذ ويخبركم.
ومن أمعن النظر في هذا العبارات، ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحوى والإشارات جزم بأن الفارقليط هو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام، شهد لعيسى بالنبوة والرسالة، ومجده وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحرًا كذابًا، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل، بريئة الساحة، وهو الذي وبخ العالم- سيما اليهود- على الخطايا، لاسيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام، والطعن في والدته الطاهرة البتول، وهو الأمين الصادق، الذي علم جميع الحقائق، هو الذي أَبَان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار، وهو الذي، لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}.
وفسر العلامة ابن قتيبة روح الحق الذي من الأب ينبثق، أي: يصدر بكلام الله المنزل، واستدل بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}، والمراد به هنا القرآن الكريم، لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزاهة، عما افتري عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه، واهتدوا بهديه، ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك فتعين أن يكون هو المراد.
وفي قول عيسى عليه السلام: إن خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط.
إشارة إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل.
ولفظ فارقليط يوناني الأصل، قيل: أصله باراكلي طوس، بمعنى كان لسان قومه، وما كان يتكلم باليوناني، لأنه كان عبرانيًا ابن عبرانية، نشأ في قومه العبرانيين، فنقل أقواله في هذه الأناجيل، نقل بالمعنى.
فترجيح من رجح من النصارى، أن أصل فارقلط هو الأول ترجيح بلا مرجح، والتفاوت بين اللفظين يسير جدًّا، الحروف اليونانية متشابهة.
وأيًا كان أصله، فالإستدلال صحيح، لصدق اللفظ بمعانيه كلها على النبي صلى الله عليه وسلم صدقًا جليًا، لايخفى إلا على مشاغب.
وقد كانت هذه البشائر سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان، كما بينه في كتابه تحفة الأديب في الرد على أهل الصليب.
وقد نبذ النصارى بعد الأناجيل المصرحة باسم محمد، لكونها شجى في حلوق أهوائهم، كإنجيل برنابا ففيه التصريح بقوله: إلى أن يجئ محمد رسول الله. كما نقله في إظهار الحق.
وإذا كان حالهم في تراجمهم، في لقب إلههم، ولقب خليفته ما علم، فكيف يرجى منهم صحة بقاء محمد أو أحمد؟
إلا أن سيف الحق أمضى، وسهام الصوب أنفذ، فثمة من الأوصاف الصريحة، والأشائر الصحيحة، ما لا يبق معه وقفه لحائر.
هذا، وفي كتبهم بشائر كثيرة، تعرض لذكرها جلة من العلماء، مما أناف على العشرين.
قال الماوردي: لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر.
وقد اقتصرنا على ما قدمنا، رَوْمًا للإختصار، ولسهولة الوقوف على البقية، من مثل أعلام النبوة للماوردي وإظهار الحق وغيرهما.
وقد قال صاحب إظهار الحق الشيخ رحمه الله: إن من أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول، شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل عبد الله بن سلام، وأبني سعية، وبنيامين، ومخيريق، وكعب الأحبار، وغيرهم من علماء اليهود، ومثل بحيرا ونسطورا الحبشي، وضغاطر، وهو الأسقف الرومي الذي أسلم على يد دِحْية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه، والجارود، والنجاشي، والسوس، والرهبان الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيرهم من علماء النصارى.
وقد اعترف بصحة نبوته، وعموم رسالته، هرقل قيصر الروم، ومقوقس صاحب مصر، وابن صوريا، وحُيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم، ممن حملهم الحسد على الشقاء ولم يسلموا.
ولما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران، وحاجهم في شأن عيسى عليه السلام وحجهم، دعاهم إلى المباهلة بأمره تعالى، فنكصوا على أعقابهم، خوفًا من شؤم مغبتها، فكانوا كقوم فرعون آمنوا بها: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.
السادس: قوله تعالى: {يأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} يحتمل أن يكون مستأنفًا، وأن يكون مفسرًا: {مَكْتُوبًا} أي: لما كتب.
السابع: الطيبات أعم من الطيبات في المأكل كالشحوم، وكذا البحائر والسوائب والوصائل والحام.
ومن الطيبات في حكم الشريعة كالبيع، وما خلا كسبه عن سحت، وكذا الخبائث ما يستخبث، من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة.
قيل: يستبعد إرادة ما طاب أو خبث في الحكم، لأن معناه حينئذ ما حكم الشرع بحله، أو حكم بحرمته، فيرجع الكلام إلى أنه يحل ما يحكم بحله، ويحرم ما يحكم بحرمته، ولا فائدة فيه.
وردوه بأن يفيد فائدة وأي فائدة! لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع، لا بالعقل والرأي.
الثامن: في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة». وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري، لما بعثهما إلى اليمن: «بشرا ولا تنفرا، ويسرًا ولا تعسرًا، وتطاوعًا ولا تختلفًا».